فصل: (سورة الفيل: الآيات 1- 5)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال دروزة:

سورة الفيل:
في السورة تذكير بما كان من نكال اللّه في أصحاب الفيل في معرض الإنذار.
بسم الله الرحمن الرحيم

.[سورة الفيل: الآيات 1- 5]

{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ}.
(1) {أبابيل}: جماعات وفرق يتبع بعضها بعضا. أو الجماعات الكثيرة وقيل إن واحدها أبيل، وقيل إنها جمع إبّالة وهي الحزمة، وهذا في نفس المعنى الأول.
(2) {سجيل}: الطين المتحجر وقيل إنها تعريب سنك كيل الفارسية التي تعني ذلك. وقد تكرر ورودها في القرآن مما يدل على أن دخولها في اللسان العربي قديم.
(3) {العصف}: ورق الزرع.
معنى آيات السورة واضح، وهي تذكر السامعين في معرض الإنذار بما كان من نكال اللّه في أصحاب الفيل فجعل كيدهم حابطا خاسرا حيث أرسل عليهم جماعات من الطير فرمتهم بحجارة طينية وجعلتهم كورق الزرع الممضوغ.
وجمهور المفسرين على أن المقصد من أصحاب الفيل هم الأحباش الذين غزوا مكة فإذا كان هذا صحيحا فإنه يؤيد الروايات التي ترويها الكتب العربية القديمة عن الغزوة التي تعرف في تاريخ العرب قبل الإسلام بغزوة الفيل والتي قام بها الأحباش بقيادة أبرهة. وسميت كذلك لأنه كان في الحملة الحبشية بعض الأفيال.
وملخص ما جاء في الروايات أن الأحباش غزوا اليمن قبل البعثة النبوية بذريعة نصر النصارى الذين اضطهدهم الملك الحميري ذو نواس الذي كان يعتنق اليهودية وانتصروا عالى الدولة الحميرية ووطدوا سلطانهم في اليمن. وقد اضطهدوا بدورهم اليهود اليهودية وأخذوا يدعون العرب إلى النصرانية وينشئون الكنائس في اليمن وقد أنشئوا كنيسة كبرى سمتها الكتب العربية باسم القليس. غير أن العرب لم يستجيبوا إلى الدعوة وظلوا متعلقين بتقاليدهم وبالحج إلى الكعبة في الحجاز حتى أن بعضهم نجّس القليس فغضب الأحباش وأرادوا أن يخضعوا الحجاز لحكمهم ويهدموا الكعبة التي يتعلق بها العرب فجاءوا بحملة كبيرة فلما وصلت قرب مكة شرد أهل مكة إلى الجبال لأنهم رأوا أن لا طاقة لهم بها. ولكن اللّه حبس الفيل الكبير الذي كان في طليعة الحملة عن مكة فتوقفت الحملة، فسلط اللّه عليها جماعات كثيرة من الطيور تحمل بمناقيرها حجارة صغيرة من طين متحجر وأخذت ترمي بالحجارة على الأحباش فلا يكاد الحجر يصيب جسم الحبشي حتى يتهرأ. وقد تمزق شمل الحملة نتيجة لذلك ونجا الحجاز والكعبة. وقد كان لهذا الحادث ونتيجته ردّ فعل عظيم في بلاد العرب حتى صاروا يؤرخون أحداثهم بعام الفيل. وقد روي فيما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد في هذا العام كما روي أن الحادث كان قبل ولادته بمدة تراوحت بين ثلاث عشرة سنة وأربعين سنة على اختلاف الروايات، ومما ذكرته الروايات أن عربيا اسمه أبو رغال صار دليلا للحملة فمات في مكان اسمه المغمس فصار العرب يرجمون قبره استنكارا لخيانته لقومه وظلوا على ذلك دهرا.
وأسلوب الآيات ومضمونها يدلان أولا على أن الحادث كان لا يزال صداه يتردد على الألسنة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم حينما نزلت السورة. وثانيا علي أن العرب كانوا يعتقدون أن البلاء الذي وقع على الأحباش وهرّأ أجسامهم ومزق شملهم هو بلاء رباني. وثالثا على أن القصد من التذكير بالحادث الذي كان قريب العهد، وكان مالئا للأذهان هو الموعظة ودعوة السامعين أو زعماء قريش إلى الارعواء عن مواقف الأذى والجحود التي يقفونها. فاللّه الذي كان من قدرته أن يصب بلاءه على الأحباش ويمزقهم شرّ ممزق مع ما هم عليه من شدة البأس قادر على أن يصب بلاءه عليهم ويمزقهم. وهم يعرفون ذلك فعليهم أن يرعووا ويحذروا ويتركوا الأذى والعناد.
وهكذا يتسق الأسلوب والهدف القرآني في هذه القصة اتساقهما في القصص القرآنية عامة، على ما شرحنا قبل، أما ماهية الطير والحجارة فقد ذكر المفسرون القدماء في صددها أقوالا تجعل الحادث في نطاق المعجزات والخوارق. ورووا فيما رووه أن مرضي الحصبة والجدري ظهرا لأول مرة في الحجاز عقب الحادث كأنما يريدون أن يقولوا إن الطير رمتهم بحجارة أصيبوا منها بأحد المرضين. وقد أوّل الإمام الشيخ محمد عبده ذلك بأن الحجارة كانت ملقحة بجرثومة الجدري. ولسنا نرى كبير طائل في تحقيق ماهية الحادث لذاته لأنه خارج عن نطاق الهدف القرآني. ولكنا نقول إن حرفية آيات السورة وظاهرها على كل حال في جانب كون الحادث بلاء ربانيا خارقا كما أن أسلوبها يساعد على القول إنها في صدد التذكير بحادث عظيم، وإن سامعي القرآن الذين كانوا حديثي عهد بالحادث كانوا يعتقدون أن الذي وقع على الأحباش هو بلاء رباني خارق في صورة زحوف من الطير كانت ترميهم بحجارة من سجيل.
هذا، ولقد أسهب المفسرون المطولون في صور الحادث وأوردوا روايات عديدة عن ماهية الطير والحجارة وأشكالها وكيفية رميها والإصابات التي كانت تحدثها ومقابلة عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم لأبرهة قبل الحادث وما دار بينه وبينه في صدد مواشي أهل مكة والكعبة، وأوردوا فيما أوردوه أن ابن عباس قال: إنه رأى من حجارة الطير قفيزا عند أم هانئ رضي اللّه عنها عمة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهي مخططة بحمرة وأن عائشة رضي اللّه عنها قالت إنها رأت قائد الفيل وسائسه أعميين مقعدين... إلخ.
ومع أن هذا الإسهاب لا يدخل في غرض التفسير وأن الروايات تتحمل الشك والتوقف، فإن هذا وذاك يدلان على أن العرب في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يتداولون أخبار الحادث العظيم ومشاهده. اهـ.

.قال عبد الكريم الخطيب:

(105) سورة الفيل:
نزولها: مكية.
نزلت بعد سورة (الكافرون).
عدد آياتها: خمس آيات.
عدد كلماتها: ثلاث وعشرون كلمة.
عدد حروفها: ثلاثة وتسعون حرفا.
مناسبتها لما قبلها:
في سورة (الهمزة) عرض لمن جمع المال، واتخذ منه سلاحا يغمز به الناس، ويهمزهم، ويمزق أديمهم، ويزبل وجودهم الإنسانى بين الناس..
وسورة (الفيل) تعرض لجماعة من تلك الجماعات، التي اجتمع ليدها قوة من تلك القوى المخيفة، هي الفيل، الذي يشبه قوة المال في طغيانه، حين يجتمع ليد إنسان جهول غشوم، طاغية، فيتسلط على الناس، كما يتسلط صاحب الفيل على صاحب الحمار، أو الحصان، مثلا.. فكان عاقبة صاحب هذا الفيل الهلاك والدمار، كما كان عاقبة صاحب هذا المال، الذلّ والخزي، والخسران..
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيات: (1- 5) [سورة الفيل (105): الآيات 1- 5]
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1)}
التفسير:
فيما يحدث به التاريخ، وتتوارد عليه الأخبار الصحيحة، تلك الحادثة التي تسمى حادثة الفيل، والتي أرخ بها العرب الجاهليون، كما كانوا يؤرخون بالأحداث العظيمة، التي تقع لهم في مسيرة حياتهم.. فاتخذوا عام الفيل مبدأ لمرحلة من مراحل التاريخ عندهم..
وحادثة الفيل- كما تروى كتب التاريخ والسير- كانت عام ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم.. وأن مسرحها كان مكة، البلد الحرام، وأن مقصدها كان هدم الكعبة والبيت الحرام! قيل إن قائدا حبشيا اسمه (أبرهة)، كان قد غلب على اليمن، ثم رأى تعظيم العرب للكعبة، وإقبالهم عليها، وتمسحهم بها، فأراد أن يجعل وجهة العرب إليه، فبنى بنيّة، أراد بها أن يحج العرب إليها، وأن ينصرفوا عن الكعبة.. فلما لم يجد منهم استجابة لدعوته، ولا التفاتا إلى بنيته، قرر أن يهدم الكعبة، ويزيل معالمها، حتى لا يكون للعرب متجه إليها، فيخلو بذلك وجههم لهذه البنية التي بناها.. فسار يجيش كثيف، يتقدمه فيل عظيم، كان عدة له من عدد الحرب التي يرهب بها أعداءه.. فلما سمعت قريش بمقدم أبرهة بهذا الفيل الذي يتهددهم به، فزعت، وهالها الأمر..
قالوا: ونزل أبرهة بجيشه وفيله بمكان اسمه (المغلّس) على مشارف مكة، وحط رحاله هناك، استعدادا لدخول مكة، وهدم الكعبة..
ثم إنه استدعى إليه صاحب كلمة قريش يومئذ، وكان عبد المطلب بن هاشم، جدّ النبي.. فجاء إليه، فكلمه أبرهة فيما جاء له، وأنه لا يريد شرا بالناس، وإنما جاء ليهدم الكعبة، فإن أخلت قريش بينه وبين الكعبة لم يعرض لهم بسوء، وإلا فقد عرفوا ما سوف ينزل بهم من بلاء!! فقال له عبد المطلب:
دونك وما تشاء.. ولكن ردّ إلينا ما احتواه جيشك من أموالنا.. وكان جيش أبرهة قد ساق كل ما صادفه في طريقه من إبل وشاء، وعبيد، مما كان على مواقع المراعى لقريش.. فقال أبرهة: أحدثك في شأن الكعبة، وتحدثنى عن الإبل والشاء؟ أترى هذه الأنعام أكرم عندكم وأغلى من هذا البيت الذي تعظمونه؟ فقال عبد المطلب هذه الأنعام لنا، أما البيت فله ربّ يحميه!! قالوا: ودعا عبد المطلب قريشا إلى أن يخرجوا من مكة إلى شعابها، وجبالها، وأن يدعوا أبرهة والبيت الحرام..
وفى صبيحة اليوم الذي تأهب فيه أبرهة لدخول البلد الحرام، فشا في جيشه الجدري، فهلك الجيش جميعه.
قالوا، وكان ذلك أول عهد العرب بهذا الداء، الذي لم تعرفه من قبل.. وقالوا: إن هذا الداء كان يهرى جسد من يلمّ به، حيث يتناثر لحمه، ويتساقط، قطعا قطعا، كما تتساقط الرمم المتعفنة..
وهكذا قضى على الجيش كله، ولم تبق منه إلا تلك الأشلاء الممزقة، المتناثرة.
والقرآن الكريم، لا يشير إلى هذا الداء- داء الجدري- الذي يقال إنه هو الذي هلك به أبرهة وجيشه، وإنما يتحدث عن طير أبابيل، رمت القوم بحجارة من سجيل، فجعلتهم كعصف مأكول، كما يقول سبحانه: {أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ} وهو استفهام تقريرى تنطق به الحال المشاهدة..
والتضليل: الضياع، والخيبة، والبوار..
وقوله تعالى: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبابِيلَ}..
الأبابيل: الجماعات، والأسراب التي يتبع بعضها بعضا..
وقوله تعالى: {تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ..}.
أي أن هذه الأسراب من الطير كانت ترمى القوم بحجارة من سجيل.. وهذه الحجارة لا يدرى حقيقتها إلا اللّه سبحانه وتعالى، والأوصاف التي يصفها بها المفسرون والمحدّثون لا ينبغى الوقوف: عندها.. وهل يسأل عن عصا موسى وكيف كانت تنقلب حية؟ وعن يد عيسى وكيف كانت تبرئ الأكمه والأبرص، وعن كلمته، وكيف كانت تحيى الموتى؟.. إنها آيات من عند اللّه، وآيات اللّه، وإن لبست في الظاهر صورا حسية، فإن في كيانها أسرارا لا يعلمها إلا علام الغيوب.. وهذه الطير، هي طير، والذي كانت تحمله وترمى يه القوم، هو حجارة من سجيل.. أما جنس هذا الطير، وصفته، وأما الأحجار وصفتها فذلك ما لا يعلمه إلا اللّه، والبحث عنه رجم بالغيب.. هذا، ويطلق الطير على كل ما طار بجناحين، سواء أكان بعوضا، أم ذبابا، أم نسورا، وعقبانا.. والسجيل: الحجارة الصلدة، وأصل السجيل، الطين المطبوخ.
والعصف: الكمّ الذي يضم الحب في كيانه، كحب القمح، والشعير، ونحوه.. كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ}.
والعصف المأكول: أي الذي أكل منه الحب، وبقي هذا القشر الرقيق الذي كان يغلّقه.. ولا شك أن هذا الذي أخذ اللّه سبحانه وتعالى به هذا الطاغية الذي جاء ليهدم بيت اللّه، هو آية من الآيات الدالة على ما لهذا البيت عند اللّه من حرمة، وأنه بيته على هذه الأرض، الذي كان أول بيت وضع للناس، وسيكون آخر بيت يبقى على وجه الأرض.. وأنه لا يزول حتى تزول معالم الحياة من هذا العالم.. ثم إن وقوع هذه الآية مع مطلع ميلاد النبي، هو آية من آيات اللّه، على ما لرسول اللّه عند ربه من مقام كريم، فلا ينزل سوء ببلد هو فيه.. إنه صلوات اللّه وسلامه عليه- رحمة حيث كان.. رحمة للناس، وبركة على المكان والزمان.. فرحم اللّه قومه، وأكرمهم من أجله، فلم ينزل به ما نزل بالأقوام الضالين الذين عصوا رسلهم، بل عافاهم اللّه سبحانه من هذا البلاء وأخذ بهم إلى طريق الهدى والإيمان. وكذلك فعل سبحانه بالبلد الحرام، مطلع نبوته، ومبدأ رسالته، فحماها من كل سوء، ودفع عنها كل مكروه.. في ماضيها، وحاضرها ومستقبلها، وستبقى هكذا إلى يوم الدين، البيت المعمور، الذي تتجه إليه أبدا قلوب الأمة الإسلامية ووجوهها. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)}
استفهام تقريري وقد بيّنّا غير مرة أن الاستفهام التقريري كثيرًا ما يكون على نفي المقرَّر بإثباته للثقة بأن المقرَّر لا يسعه إلا إثبات المنفي وانظر عند قوله تعالى: {ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم} في سورة البقرة (243).
والاستفهام التقريري هنا مجاز بعلاقة اللزوم وهو مجاز كثر استعماله في كلامهم فصار كالحقيقة لشهرته.
وعليه فالتقرير مستعمل مجازًا في التكريم إشارة إلى أن ذلك كان إرهاصًا للنبي فيكون من باب قوله: {لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد} [البلد: 1، 2]، وفيه مع ذلك تعريض بكفران قريش نعمة عظيمة من نعم الله عليهم إذ لم يزالوا يعبدون غيره.
والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم كما يقتضيه قوله: {ربك}.
فمهيع هذه الآية شبيه بقوله تعالى: {ألم يجدك يتيمًا فآوى} [الضحى: 6] الآيات وقوله: {لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد} [البلد: 1، 2] على أحد الوجوه المتقدمة.
فالرؤية يجوز أن تكون مجازية مستعارة للعلم البالغ من اليقين حد الأمر المرئي لتواتر ما فعل الله بأصحاب الفيل بين أهل مكة وبقاء بعض آثار ذلك يشاهدونه.
وقال أبو صالح: رأيت في بيت أم هاني بنتت أبي طالب نحوًا من قفيزين من تلك الحجارة سُودًا مخططة بحمرة.
وقال عتاب بن أسِيدْ: أدركت سائس الفيل وقائده أعميين مُقْعَدين يستطعمان الناس.
وقالت عائشة: لقد رأيْتُ قائد الفيل وسائقه أعمَيين يستطعمان الناس.
وفعل الرؤية معلق بالاستفهام.
ويجوز أن تكون الرؤية بصرية بالنسبة لمن تجاوز سنهُ نيفًا وخمسين سنة عند نزول الآية ممن شهد حادث الفيل غلامًا أو فتى مثل أبي قحافة وأبي طالب وأبي بن خلف.
و{كيف} للاستفهام سَدّ مسدّ مفعوليْ أو مفعول {تَر}، أي لم تر جواب هذا الاستفهام، كما تقول: علمتُ هل زيد قائم؟ وهو نصب على الحال من فاعل {تَر}.
ويجوز أن يكون {كيف} مجردًا عن معنى الاستفهام مرادًا منه مجرد الكيفية فيكون نصبًا على المفعول به.
وإيثار {كيف} دون غيره من أسماء الاستفهام أو الموصول فلم يقل: ألم تر ما فعل ربك، أو الذي فعل ربك، للدلالة على حالة عجيبة يستحضرها من يعلم تفصيل القصة.
وأوثر لفظ {فعل ربك} دون غيره لأن مدلول هذا الفعل يعم أعمالًا كثيرة لا يدل عليها غيره.
وجيء في تعريف الله سبحانه بوصف (رب) مضافًا إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم إيماء إلى أن المقصود من التذكير بهذه القصة تكريم النبي صلى الله عليه وسلم إرهاصًا لنبوءته إذ كان ذلك عام مولده.
وأصحاب الفيل: الحَبشة الذين جاءوا مكة غازين مضمِرين هدم الكعبة انتقامًا من العرب من أجل ما فعله أحد بني كنانة الذين كانوا أصحاب النسيء في أشهر الحج.
وكان خبر ذلك وسببه أن الحبشة قد ملكوا اليمن بعد واقعة الأخدود التي عَذَّب فيها الملكُ ذو نواس النصارى، وصار أمير الحبشة على اليمن رجلًا يقال له: (أبرهة) وأن أبرهة بنى كنيسة عظيمة في صنعاء دعاها القَلِيس (بفتح القاف وكسر اللام بعدما تحتية ساكنة، وبعضهم يقولها بضم القاف وفتح اللام وسكون التحتية).
وفي (القاموس) بضم القاف وتشديد اللام مفتوحة وسكون الياء.
وكتبه السهيلي بنون بعد اللام ولم يضبطه وزعم أنه اسم مأخوذ من معاني القَلْس للارتفاع.
ومنه القلنسوة واقتصر على ذلك ولم أعرف أصل هذا اللفظ فإما أن يكون اسم جنس للكنيسة ولعل لفظ كنيسة في العربية معرّب منه، وإما أن يكون علمًا وضعوه لهذه الكنيسة الخاصة وأراد أن يصرف حج العرب إليها دون الكعبة فروي أن رجلًا من بني فُقَيم من بني كنانة وكانوا أهل النسيء للعرب كما تقدم عند قوله تعالى: {إنما النسيء زيادة في الكفر} في سورة براءة (37)، قَصد الكنانيُّ صنعاء حتى جاء القليس فأحدث فيها تحقيرًا لها ليتسامَعَ العربُ بذلك فغضب أبرهة وأزمع غزو مكة ليهدم الكعبة وسار حتى نزل خارج مكة ليلًا بمكان يقال له المُغَمَّس (كمعظم موضع قرب مكة في طريق الطائف) أو ذو الغميس (لم أر ضبطه) وأرسل إلى عبد المطلب ليحذره من أن يحاربوه وجرى بينهما كلام، وأمر عبد المطلب إله وجميع أهل مكة بالخروج منها إلى الجبال المحيطة بها خشية من معرة الجيشاذا دخلوا مكة.
فلما أصبح هيّأ جَيْشه لدخول مكة وكان أبرهة راكبًا فيلًا وجيشه معه فبينا هو يَتهيّأ لذلك إذ أصاب جنده داء عضال هو الجُدريّ الفتاك يتساقط منه الأنامل، ورأوا قبل ذلك طيرًا ترميهم بحجارة لا تصيب أحدا إلا هلك وهي طير من جند الله فهلك معظم الجيش وأدبر بعضهم ومرض (أبرهة) فقفل راجعًا إلى صنعاء مريضًا، فهلك في صنعاء وكفى الله أهل مكة أمر عدوّهم.
وكان ذلك في شهر محرم الموافق لشهر شباط (فبراير) سنة 570 بعد ميلاد عيسى عليه السلام، وبعد هذا الحادث بخمسين يومًا ولد النبي على أصح الأخبار وفيها اختلاف كثير.
والتعريف في {الفيل} للعهد، وهو فيل أبرهة قائد الجيش كما قالوا للجيش الذي خرج مع عائشة أم المؤمنين أصحاب الجَمل يريدون الجمل الذي كانت عليه عائشة، مع أن في الجيش جمالًا أخرى.
وقد قيل: إن جيش أبرهة لم يكن فيه إلا فيل واحد، وهو فيل أبرهة، وكان اسمه محمود.
وقيل: كان فيه فِيَلَة أخرى، قيل ثمانية وقيل: اثنا عشر.
وقال بعضٌ: ألف فيل.
ووقع في رجز ينسب إلى عبد المطلب:
أنتَ منعتَ الحُبْشَ والأفْيالا

فيكون التعريف تعريف الجنس ويكون العهد مستفادًا من الإِضافة.
والفيل: حيوان عظيم من ذوات الأربع ذواتت الخف، من حيوان البلاد الحارة ذات الأنهار من الهند والصين والحبشة والسودان، ولا يوجد في غير ذلك إلا مجلوبًا، وهو ذكي قابل للتأنس والتربية، ضخم الجثة أضخم من البعير، وأعلى منه بقليل وأكثر لحمًا وأكبر بطنًا.
وخف رجله يشبه خف البعير وعنقه قصير جدًا له خرطوم طويل هو أنفه يتناول به طعامه وينتشق به الماء فيفرغه في فيه ويدافع به عن نفسه يختطف به ويلويه على ما يريد أذاه من الحيوان، ويلقيه على الأرض ويدوسه بقوائمه.
وفي عينيه خزر وأذناه كبيرتان مسترخيتان، وذَنبه قصير أقصر من ذنب البعير وقوائمه غليظة.
ومناسمه كمناسم البعير وللذكر منه نابان طويلان بارزان من فمه يتخِذ الناس منها العاجَ.
وجلده أجرد مثل جلد البقر، أصهب اللون قاتم كلون الفار ويكون منه الأبيض الجلد.
وهو مركوبٌ وحاملُ أثقال وأهل الهند والصين يجعلون الفيل كالحصن في الحرب يجعلون محفة على ظهره تسع ستة جنود.
ولم يكن الفيل معروفًا عند العرب فلذلك قلّ أن يُذكر في كلامهم وأول فيل دخل بلاد العرب هو الفيل المذكور في هذه السورة.
وقد ذكرت أشعار لهم في ذكر هذه الحادثة في السيرة.
ولكن العرب كانوا يسمعون أخبار الفيل ويتخيلونه عظيمًا قويًا، قال لبيد:
ومقاممٍ ضيِّق فرَّجْتُه ** ببيانٍ ولسان وجَدل

لو يقومُ الفيلُ أوفَيَّالُه ** زل عن مثل مقامي ورحل

وقال كَعب بن زهير في قصيدته:
لقَدْ أقومُ مقامًا لو يقوم به ** أرى وأسمع ما لو يسمع الفيل

لظلَّ يَرْعد إلا أنْ يكون له ** من الرسول بإذن الله تنويل

وكنت رأيْتُ أنّ.......................................
قال إن أمه أرته أو حدثته أنها رأت روث الفيل بمكة حول الكعبة ولعلهم تركوا إزالته ليبقى تذكرة.
وعن عائشة وعتاب بن أسيد: رأيت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان الناس.
والمعنى: ألم تعلم الحالة العجيبة التي فعلها الله بأصحاب الفيل، فهذا تقرير على إجمال يفسره ما بعده.
أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
هذه الجمل بيان لما في جملة {ألم تر كيف فعل ربك} [الفيل: 1] من الإِجمال.
وسمى حربهم كيدًا لأنه عمل ظاهره الغضب من فعل الكناني الذي قعد في القليس.
وإنما هو تعلة تعللوا بها لإِيجاد سبب لحرب أهل مكة وهدم الكعبة لينصرف العرب إلى حجّ القليس في صنعاء فيتنصّروا.
أو أريد بكيدهم بناؤهم القليس مظهرين أنهم بنوا كنيسة وهم يريدون أن يبطلوا الحج إلى الكعبة ويصرفوا العرب إلى صنعاء.
والكَيد: الاحتيال على إلحاق ضر بالغير ومعالجة إيقاعه.
والتضليل: جعل الغير ضالا، أي لا يهتدي لمراده وهو هنا مجاز في الإِبطال وعدم نوال المقصود لأن ضلال الطريق عدم وصول السائر.
وظرفية الكيد في التضليل مجازية، استعير حرف الظرفية لمعنى المصاحبة الشديدة، أي أبطل كيدهم بتضليل، أي مصاحبًا للتضليل لا يفارقه، والمعنى: أنه أبطله إبطالًا شديدًا إذ لم ينتفعوا بقوتهم مع ضعف أهل مكة وقلة عددهم.
وهذا كقوله تعالى: {وما كيد فرعون إلا في تباب} [غافر: 37] أي ضياع وتلف، وقد شمل تضليلُ كيدهم جميعَ ما حلّ بهم من أسباب الخيبة وسوء المنقلب.
وجملة: {وأرسل عليهم طيرًا أبابيل} يجوز أن تجعل معطوفة على جملة {فَعَل ربك بأصحاب الفيل} [الفيل: 1]، أي وكيف أرسل عليهم طيرًا من صفتها كَيْت وكَيْت، فبعد أن وقع التقرير على ما فَعل الله بهم من تضليل كيدهم عطف عليه تقرير بعلم ما سُلط عليهم من العقاب على كيدهم تذكيرًا بما حلّ بهم من نقمة الله تعالى، لقصدهم تخريب الكعبة، فذلك من عناية الله ببيته لإظهار توطئته لبعثة رسوله صلى الله عليه وسلم بدينه في ذلك البلد، إجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام، فكما كان إرسال الطير عليهم من أسباب تضليل كيدهم، كان فيه جزاء لهم، ليعلموا أن الله مانع بيته، وتكون جملة: {ألم يجعل كيدهم في تضليل} معترضة بين الجملتين المتعاطفتين.
ويجوز أن تجعل {وأرسل عليهم} عطفًا على جملة {ألم يجعل كيدهم في تضليل} فيكون داخلًا في حيز التقرير الثاني بأن الله جعل كيدهم في تضليل، وخص ذلك بالذكر لجمعه بين كونه مبطلًا لكيدهم وكونه عقوبة لهم، ومَجيئهُ بلفظ الماضي باعتبار أن المضارع في قوله: {ألم يجعل كيدهم في تضليل} قُلب زمانه إلى المضي لدخول حرف {لم} كما تقدم في قوله تعالى: {ألم يجدك يتيمًا فآوى ووجدك ضالا فهدى} في سورة الضحى (6، 7)، فكأنه قيل: أليس جعَل كيدهم في تضليل.
والطير: اسم جمع طائر، وهو الحيوان الذي يرتفع في الجو بعمل جناحيه.
وتنكيره للنوعية لأنه نوع لم يكن معروفًا عند العرب.
وقد اختلف القصّاصون في صفته اختلافًا خياليًا.
والصحيح ما رُوي عن عائشة: أنها أشبه شيء بالخطاطيف، وعن غيرها أنها تشبه الوطواط.
و{أبابيل}: جماعات.
قال الفراء وأبو عبيدة: أبابيل اسم جمع لا واحد له من لفظه مثل عباديد وشماطيط وتبعهما الجوهري، وقال الرُّؤَاسي والزمخشري: واحد أبابيل إبَّالة مشددة الموحدة مكسورة الهمزة.
ومنه قولهم في المثل: (ضِغث على إبّالة) وهي الحزمة الكبيرة من الحطب. وعليه فوصف الطير بأبابيل على وجه التشبيه البليغ.
وجملة {ترميهم} حال من {طيرًا} وجيء بصيغة المضارع لاستحضار الحالة بحيث تخيل للسامع كالحادثة في زمن الحال ومنه قوله تعالى: {واللَّه الذي أرسل الرياح فتثير سحابًا فسقناه إلى بلد ميت} [فاطر: 9] الآية.
وحجارة: اسم جمع حَجر.
عن ابن عباس قال: طين في حجارة، وعنه أن سجيل معرب سَنْك كِلْ من الفارسية، أي عن كلمة (سنك) وضبط بفتح السين وسكون النون وكسر الكاف اسم الحجر وكلمة (كلْ) بكسر الكاف اسم الطين ومجموع الكلمتين يراد به الآجُر.
وكلتا الكلمتين بالكاف الفارسية المعمّدة وهي بين مخرج الكاف ومخرج القاف، ولذلك تكون {من} بيانية، أي حجارة هي سجيل، وقد عد السبكي كلمة سجيل في (منظومته في المعرَّب الواقع في القرآن). وقد أشار إلى أصل معناه قوله تعالى: {لنرسل عليهم حجارة من طين} [الذاريات: 33] مع قوله في آيات أُخر {حجارة من سجيل} فعلم أنه حجر أصله طين.
وجاء نظيره في قصة قوم لوط في سورة هود (82): {وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود} وفي سورة الحجر (74): فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل فتعين أن تكون الحجارة التي أرسلت على أصحاب الفيل من جنس الحجارة التي أمطرت على قوم لوط، أي ليست حجرًا صخريًا ولكنها طين متحجر دلالة على أنها مخلوقة لعذابهم.
قال ابن عباس: كانَ الحجر إذا وقع على أحدهم نفط جلده فكان ذلك أول الجُدري.
وقال عكرمة: إذا أصاب أحدهم حجر منها خرج به الجدري.
وقد قيل: إن الجدري لم يكن معروفًا في مكة قبل ذلك.
وروي أن الحجر كان قدر الحِمَّص.
روى أبو نعيم عن نوفل بن أبي معاوية الديلمي قال: رأيت الحصَى التي رمي بها أصحاب الفيل حصى مثل الحمص حمرًا بحُتْمَة (أي سواد) كأنها جِزع ظَفَارِ.
وعن ابن عباس: أنه رأى من هذه الحجارة عند أم هاني نحو قفيز مخططة بحُمرة بالجزع الظَّفاري.
والعصف: ورق الزرع وهو جمع عَصْفة.
والعصف إذا دخلته البهائم فأكلته داسته بأرجلها وأكلت أطرافه وطرحته على الأرض بعد أن كان أخضر يانعًا.
وهذا تمثيل لحال أصحاب الفيل بعد تلك النضرة والقوة كيف صاروا متساقطين على الأرض هالكين. اهـ.